كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



بَعْدَ هَذَا الْقَوْلِ الَّذِي أَمَرَ اللهُ بِهِ رَسُولَهُ لِلتَّذْكِيرِ بِأَنَّهُ الرَّبُّ الْمَالِكُ لِكُلِّ شَيْءٍ، الْمُتَصَرِّفُ بِالْفِعْلِ وَالتَّدْبِيرِ فِي كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى دَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ وَالْأُمُورِ وَخَفَايَاهَا، وَأَنَّ تَصَرُّفَهُ هَذَا عَنْ عِلْمٍ مُحِيطٍ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ وَلَا دَبِيبُ نَمْلَةٍ. أَمَرَهُ بِقَوْلٍ آخَرَ بَيَّنَ فِيهِ مَا يَسْتَلْزِمُهُ مَا قَبْلَهُ مِنْ وُجُوبِ وِلَايَتِهِ تَعَالَى وَحْدَهُ وَالتَّوَجُّهِ إِلَيْهِ دُونَ سِوَاهُ فِي كُلِّ مَا هُوَ فَوْقَ كَسْبِ الْبَشَرِ، وَالِاعْتِمَادِ عَلَى تَوْفِيقِهِ فِيمَا هُوَ مِنْ كَسْبِهِمْ، وَلَا يَتِمُّ بِهِ الْمُرَادُ بِمَحْضِ سَعْيِهِمْ، فَقَالَ: {قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا} الْوَلِيُّ النَّاصِرُ وَمُتَوَلِّي الْأَمْرِ الْمُتَصَرِّفُ فِيهِ، وَالِاسْتِفْهَامُ هُنَا لِإِنْكَارِ اتِّخَاذِ غَيْرِ اللهِ وَلِيًّا، لَا لِإِنْكَارِ الْوَلِيِّ مُطْلَقًا، وَلِهَذَا لَمْ يَقُلْ: أَأَتَّخِذُ وَلِيًّا غَيْرَ اللهِ، وَلَا: أَأَتَّخِذُ غَيْرَ اللهِ وَلِيًّا. وَمِثْلُهُ: {أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} [39: 64] وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ اتِّخَاذُ غَيْرِ اللهِ وَلِيًّا فِي صُورَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهُوَ أَنْ يُطْلَبَ مِنْ غَيْرِهِ النَّصْرُ أَوْ غَيْرُ النَّصْرِ مِنْ ضُرُوبِ التَّصَرُّفِ فِي النَّفْعِ وَالضُّرِّ فِعْلًا وَمَنْعًا فِيمَا هُوَ فَوْقَ كَسْبِ ذَلِكَ الْغَيْرِ وَتَصَرُّفِهِ الَّذِي مَنَحَهُ اللهُ لِأَبْنَاءِ جِنْسِهِ؛ وَلِذَلِكَ فُسِّرَ الْوَلِيُّ بِالْمَعْبُودِ فِي هَذَا الْمَقَامِ. وَأَمَّا تَنَاصُرُ الْمَخْلُوقِينَ وَتَوَلِّي بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ فِيمَا هُوَ مِنْ كَسْبِهِمُ الْعَادِيِّ فَلَا يَدْخُلُ فِي عُمُومِ اتِّخَاذِ اللهِ وَلِيًّا أَوِ اتِّخَاذِهِمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللهِ. فَقَدْ أَثْنَى اللهُ تَعَالَى عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ بَعْضَهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ. وَبَيَّنَ أَيْضًا أَنَّ الْكُفَّارَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذَا مِنْ قَبْلُ، وَقَدْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ مِنَ الْوَثَنِيِّينَ وَمَنْ طَرَأَ عَلَيْهِمُ الشِّرْكُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ يَتَّخِذُونَ مَعْبُودَاتِهِمْ وَأَنْبِيَاءَهُمْ وَصُلَحَاءَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللهِ تَعَالَى، بِمَعْنَى أَنَّهُمْ بِنِدَائِهِمْ وَدُعَائِهِمْ وَالتَّوَجُّهِ إِلَيْهِمْ وَالِاسْتِغَاثَةِ بِهِمْ يَشْفَعُونَ لَهُمْ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى فِي قَضَاءِ حَاجَتِهِمْ مِنْ نَصْرٍ عَلَى عَدْوٍّ وَشِفَاءٍ مِنْ مَرَضٍ وَسَعَةٍ فِي رِزْقٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ. فَكَانَ هَذَا عِبَادَةٌ مِنْهُمْ لَهُمْ وَجَعْلُهُمْ شُرَكَاءَ لِلَّهِ بِاعْتِقَادِ كَوْنِ حُصُولِ الْمَطْلُوبِ مِنْ غَيْرِ أَسْبَابِهِ الْعَادِيَّةِ الَّتِي مَضَتْ بِهَا السُّنَنُ الْإِلَهِيَّةُ الْعَامَّةُ قَدْ كَانَ بِمَجْمُوعِ إِرَادَةِ هَؤُلَاءِ الْأَوْلِيَاءِ وَإِرَادَةِ اللهِ تَعَالَى، فَمُقْتَضَى هَذَا الِاعْتِقَادِ أَنَّ إِرَادَةَ اللهِ تَعَالَى مَا تَعَلَّقَتْ بِفِعْلِ ذَلِكَ الْمَطْلَبِ إِلَّا بِالتَّبَعِ لِإِرَادَةِ الْوَلِيِّ الشَّافِعِ أَوِ الْمُتَّخَذِ وَلِيًّا شَفِيعًا، وَالْحَقُّ أَنَّ إِرَادَةَ اللهِ تَعَالَى أَزَلِيَّةٌ لَا يُمْكِنُ أَنْ تُؤَثِّرَ فِيهَا الْمُحْدَثَاتُ، كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ مِرَارًا بِشَوَاهِدِ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ. ثُمَّ وَصَفَ اللهُ تَعَالَى بِمَا يُنَافِي اتِّخَاذَ غَيْرِهِ وَلِيًّا فَقَالَ: {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} مُبْدِعِهِمَا أَيْ مُبْدِئِهِمَا عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ سَابِقٍ، ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: مَا عَرَفْتُ مَا فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ حَتَّى أَتَانِي أَعْرَابِيَّانِ يَخْتَصِمَانِ مِنْ بِئْرٍ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: أَنَا فَطَرْتُهَا، أَيِ ابْتَدَعْتُهَا، وَأَصْلُ الْفَطَرِ الشَّقُّ، ومنه: {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ} [82: 1] بِمَعْنَى إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ وَقِيلَ لِلْكَمْأَةِ فِطْرٌ؛ لِأَنَّهَا تَفْطِرُ الْأَرْضَ فَتَخْرُجُ مِنْهَا. وَإِيجَادُ الْبِئْرِ إِنَّمَا يُبْتَدَأُ بِشَقِّ الْأَرْضِ بِالْحَفْرِ، وَقَدْ كَانَتِ الْمَادَّةُ الَّتِي خَلَقَ اللهُ مِنْهَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كُتْلَةً وَاحِدَةً دُخَّانِيَّةً، فَفَتَقَ رَتْقَهَا وَفَصَلَ مِنْهَا أَجْرَامَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَذَلِكَ ضَرْبٌ مِنَ الْفَطْرِ وَالشَّقِّ {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا} الرُّؤْيَةُ هُنَا عِلْمِيَّةٌ.
وَصْفُ اللهِ تَعَالَى بِفَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ لَا نِزَاعَ فِيهِ يُؤَيِّدُ إِنْكَارَ اتِّخَاذِ غَيْرِهِ وَلِيًّا يُسْتَنْصَرُ وَيُسْتَعَانُ بِهِ، أَوْ يُتَّخَذُ وَاسِطَةً لِلتَّأْثِيرِ فِي الْإِرَادَةِ الْإِلَهِيَّةِ، فَإِنَّ مَنْ فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِمَحْضِ إِرَادَتِهِ مِنْ غَيْرِ تَأْثِيرِ مُؤَثِّرٍ وَلَا شَفَاعَةِ شَافِعٍ يَجِبُ أَنْ يُتَوَجَّهَ إِلَيْهِ وَحْدَهُ بِالدُّعَاءِ، وَإِيَّاهُ يُسْتَعَانُ فِي كُلِّ مَا وَرَاءَ الْأَسْبَابِ، وَأَكَّدَ هَذَا بِقَوْلِهِ: {وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ} أَيْ يَرْزُقُ النَّاسَ الطَّعَامَ وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى مَنْ يَرْزُقُهُ وَيُطْعِمُهُ لِأَنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنِ الْحَاجَةِ إِلَى الطَّعَامِ وَغَيْرِهِ، غَنِيٌّ بِنَفْسِهِ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ. وَقَرَأَ أَبُو عُمَرَ: {وَلَا يَطْعَمُ} بِفَتْحِ الْيَاءِ أَيْ لَا يَأْكُلُ وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ مُؤَيِّدَةٌ لِإِنْكَارِ اتِّخَاذِ وَلِيٍّ غَيْرِ اللهِ، وَفِيهَا تَعْرِيضٌ بِمَنِ اتَّخَذُوا أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ مِنَ الْبَشَرِ بِأَنَّهُمْ مُحْتَاجُونَ إِلَى الطَّعَامِ، لَا حَيَاةَ لَهُمْ وَلَا بَقَاءَ إِلَى الْأَجَلِ الْمَحْدُودِ بِدُونِهِ، وَأَنَّ اللهَ تَعَالَى هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَهُمُ الطَّعَامَ، فَهُمْ عَاجِزُونَ عَنِ الْبَقَاءِ بِدُونِهِ وَعَاجِزُونَ عَنْ خَلْقِهِ وَإِيجَادِهِ، فَكَيْفَ يُتَّخَذُونَ أَوْلِيَاءَ مَعَ الْغَنِيِّ الْحَمِيدِ، الرَّزَّاقِ الْفَعَّالِ لِمَا يُرِيدُ؟ كَمَا قَالَ فِي الِاحْتِجَاجِ عَلَى النَّصَارَى فِي عِبَادَةِ الْمَسِيحِ وَأُمِّهِ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ} [5: 75] وَأَمَّا الْأَوْلِيَاءُ الْمُتَّخَذَةُ مِنْ غَيْرِ الْبَشَرِ كَالْأَصْنَامِ، فَهِيَ أَضْعَفُ وَأَعْجَزُ مِنَ الْبَشَرِ، لِاتِّفَاقِ عُقَلَاءَ الْأُمَمِ كُلِّهَا عَلَى تَفْضِيلِ الْحَيَوَانِ عَلَى الْجَمَادِ وَتَفْضِيلِ الْإِنْسَانِ عَلَى جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ.
{قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ} أَيْ قُلْ أَيُّهَا الرَّسُولُ بَعْدَ إِيرَادِ هَذِهِ الْآيَاتِ وَالْحُجَجِ عَلَى وُجُوبِ عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ وَعَدَمِ اتِّخَاذِ غَيْرِهِ وَلِيًّا: إِنِّي أُمِرْتُ مِنْ لَدُنْ رَبِّي الْمَوْصُوفِ بِمَا ذَكَرَ مِنَ الصِّفَاتِ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ إِلَيْهِ وَانْقَادَ لِدِينِهِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ الَّتِي بُعِثْتُ فِيهَا، فَلَسْتُ أَدْعُو إِلَى شَيْءٍ لَا آخُذُ بِهِ، بَلْ أَنَا أَوَّلُ مُؤْمِنٍ وَعَامِلٍ بِهَذَا الدِّينِ، {وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} أَيْ وَقِيلَ لِي بَعْدَ هَذَا الْأَمْرِ بِالسَّبْقِ إِلَى إِسْلَامِ الْوَجْهِ لَهُ:
لَا يَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يُقَرِّبُونَهُمْ إِلَيْهِ زُلْفَى، فَأَنَا أَتَبَرَّأُ مِنْ دِينِكُمْ وَمِنْكُمْ. وَحَاصِلُ الْمَعْنَى: أَنَّنِي أُمِرْتُ بِالْإِسْلَامِ وَنُهِيتُ عَنِ الشِّرْكِ. كَذَا قِيلَ وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: إِنَّ حَاصِلَهُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالْبَرَاءَةِ مِنَ الشِّرْكِ وَأَهْلِهِ.
وَبَعْدَ هَذَا الْقَوْلِ الْمُبَيِّنِ لِأَصْلِ الدَّعْوَةِ وَأَسَاسِ الدِّينِ، وَكَوْنِ الدَّاعِي إِلَيْهِ مَأْمُورًا بِهِ كَغَيْرِهِ أَمَرَ اللهُ رَسُولَهُ بِقَوْلٍ آخَرَ فِي بَيَانِ جَزَاءِ مَنْ خَالَفَ مَا ذَكَرَ مِنَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ آنِفًا، وَأَنَّهُ عَامٌّ لَا هَوَادَةَ فِيهِ وَلَا شَفَاعَةَ تَحُولُ دُونَهُ فَقَالَ: {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظَيمٍ} قَدَّمَ ذِكْرَ الْخَوْفِ عَلَى شَرْطِهِ الَّذِي شَأْنُهُ أَنْ يَتَقَدَّمَهُ لِأَنَّهُ هُوَ الْأَهَمُّ الْمَقْصُودُ بِالذِّكْرِ، وَشَرْطُ إِنْ لَا يَقْتَضِي الْوُقُوعَ، فَالْمَعْنَى إِنْ فُرِضَ وُقُوعُ الْعِصْيَانِ مِنِّي لِرَبِّي فَإِنَّنِي أَخَافُ أَنْ يُصِيبَنِي عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وُصِفَ بِالْعَظِيمِ لِعَظَمَةِ مَا يَكُونُ فِيهِ مِنْ تَجَلِّي الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَمُحَاسَبَتِهِ لِلنَّاسِ وَمَجَازَاتِهِ لَهُمْ. وَحِكْمَةُ هَذَا التَّعْبِيرِ مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ مِنْ أَنَّ هَذَا الدِّينَ دِينُ اللهِ الْحَقُّ لَا مُحَابَاةَ فِيهِ لِأَحَدٍ، مَهْمَا يَكُنْ قَدْرُهُ عَظِيمًا فِي نَفْسِهِ. وَأَنَّ يَوْمَ الْجَزَاءِ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ بِالْمَعْنَى الْمَعْرُوفِ عِنْدَ الْمُشْرِكِينَ وَلَا سُلْطَانَ لِغَيْرِ اللهِ تَعَالَى فَيَتَّكِلُ عَلَيْهِ مَنْ يَعْصِيهِ، ظَنًّا أَنْ يُخَفِّفَ عَنْهُ أَوْ يُنْجِيَهُ {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} وَإِذَا كَانَ خَوْفُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْعَذَابِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ مُنْتَفِيًا لِانْتِفَائِهَا بِالْعِصْمَةِ فَخَوْفُ الْإِجْلَالِ وَالتَّعْظِيمِ ثَابِتٌ لَهُ دَائِمًا.
{مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ} أَيْ مَنْ يُصْرَفْ وَيُحَوَّلْ عَنْ ذَلِكَ الْعَذَابِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ الْعَظِيمِ حَتَّى يَكُونَ بِمَعْزِلٍ عَنْهُ، أَوْ مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ ذَلِكَ الْعَذَابُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ فَقَدْ رَحِمَهُ اللهُ بِإِنْجَائِهِ مِنَ الْهَوْلِ الْأَكْبَرِ، وَبِمَا وَرَاءَ النَّجَاةِ مِنْ دُخُولِ الْجَنَّةِ لِأَنَّ مَنْ لَا يُعَذَّبُ يَوْمَئِذٍ يَكُونُ مُنَعَّمًا حَتْمًا، وَذَلِكَ الْجَمْعُ بَيْنَ النَّجَاةِ مِنَ الْعَذَابِ وَالتَّمَتُّعِ بِالنَّعِيمِ فِي دَارِ الْبَقَاءِ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ الظَّاهِرُ، وَقَدْ حَقَّقْنَا فِي تَفْسِيرِ آخِرِ السُّورَةِ السَّابِقَةِ (الْمَائِدَةِ) أَنَّ الْفَوْزَ إِنَّمَا يَكُونُ بِمَجْمُوعِ الْأَمْرَيْنِ السَّلْبِيِّ وَالْإِيجَابِيِّ، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ مَا قِيلَ فِي أَهْلِ الْأَعْرَافِ عَلَى مَا يَأْتِي تَحْقِيقُهُ فِي سُورَتِهَا. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ {مَنْ يَصْرِفْ عَنْهُ} بِالْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ، أَيْ مِنْ يَصْرِفُهُ اللهُ عَنْهُ أَيْ عَنِ الْعَذَابِ إِلَخْ. وَيُؤَيِّدُهَا قِرَاءَةُ أُبَيٍّ {مَنْ يَصْرِفِ اللهُ} بِالظَّاهِرِ لِلْفَاعِلِ وَحَذْفِ الْمَفْعُولِ، وَلَعَلَّهُ قَالَ ذَلِكَ بِقَصْدِ التَّفْسِيرِ وَلَا يَمْنَعُنَا مِنَ الْجَزْمِ بِذَلِكَ إِلَّا أَنْ يَصِحَّ أَنَّهُ كَتَبَ اسْمَ الْجَلَالَةِ فِي مُصْحَفِهِ.
وَقَدِ اسْتَدَلَّتِ الْأَشْعَرِيَّةُ بِالْآيَةِ عَلَى أَنَّ الطَّاعَةَ لَا تُوجِبُ الثَّوَابَ وَالْمَعْصِيَةَ لَا تُوجِبُ الْعِقَابَ لِأَنَّهَا نَاطِقَةٌ بِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ تَعَالَى وَفِعْلُ الْوَاجِبِ لَا يُسَمَّى رَحْمَةً، وَضَرَبُوا لِذَلِكَ الْأَمْثَالَ فِي أَفْعَالِ الْبَشَرِ، وَالْحَقُّ أَنَّ مِنْ أَفْعَالِ الرَّحْمَةِ الْبَشَرِيَّةِ مَا هُوَ وَاجِبٌ، وَمِنَ الْوَاجِبِ عَلَى النَّاسِ مَا هُوَ رَحْمَةٌ أَيْ وَاجِبٌ لِأَنَّهُ رَحْمَةٌ، وَأَمَّا الْخَالِقُ عَزَّ وَجَلَّ فَلَا يُوجِبُ عَلَيْهِ أَحَدٌ شَيْئًا إِذْ لَا سُلْطَانَ فَوْقَ سُلْطَانِهِ، وَلَهُ أَنْ يُوجِبَ عَلَى نَفْسِهِ مَا شَاءَ، وَقَدْ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ، أَيْ أَوْجَبَهَا كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ كِتَابُهُ فِي هَذَا السِّيَاقِ. فَهَذِهِ كِتَابَةٌ مُطْلَقَةٌ، وَسَيَأْتِي فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ كِتَابَتُهَا لِلْمُتَّقِينَ الْمُزَكِّينَ مِنْ مُؤْمِنِي هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَلَوْ لَمْ يَكْتُبِ الرَّبُّ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَجَازَ أَلَّا يَرْحَمَ أَحَدًا وَأَلَّا يَكُونَ رَحِيمًا بِخَلْقِهِ وَأَجَازَ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ هَذَا فَكِتَابُ اللهِ لَا يُجِيزُهُ، وَلَمَّا بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ صَرْفَ الْعَذَابِ وَالْفَوْزِ بِالنَّعِيمِ بَعْدَهُ مِنْ رَحْمَتِهِ فِي الْآخِرَةِ بَيَّنَ أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَّ التَّصَرُّفَ فِيهِ لِلَّهِ الْوَلِيِّ الْحَمِيدِ وَحْدَهُ فَقَالَ: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} الْمَسُّ أَعَمُّ مِنَ اللَّمْسِ فِي الِاسْتِعْمَالِ. يُقَالُ: مَسَّهُ السُّوءُ وَالْكِبْرُ وَالْعَذَابُ وَالتَّعَبُ وَالضَّرَّاءُ وَالضُّرُّ وَالْخَيْرُ، أَيْ أَصَابَهُ ذَلِكَ وَنَزَلَ بِهِ، وَيُقَالُ: مَسَّهُ غَيْرُهُ بِذَلِكَ أَيْ أَصَابَهُ بِهِ. وَقَدْ وَرَدَتْ هَذِهِ الْمَعَانِي كُلُّهَا فِي الْقُرْآنِ، وَلَكِنَّ الْمَسَّ بِالْخَيْرِ ذُكِرَ هُنَا فِي مُقَابِلِ الْمَسِّ بِالضُّرِّ مُسْنَدًا إِلَى اللهِ تَعَالَى، وَفِي سُورَةِ الْمَعَارِجِ فِي مُقَابِلِ الْمَسِّ بِالشَّرِّ غَيْرَ مُسْنَدٍ إِلَى اللهِ تَعَالَى، وَالضُّرُّ بِالضَّمِّ وَالْفَتْحِ لُغَتَانِ: أَوِ الضَّرُّ بِالْفَتْحِ مَصْدَرٌ، وَبِالضَّمِّ اسْمُ مَصْدَرٍ، وَالِاسْتِعْمَالُ فِيهِ، أَنْ يُضَمَّ إِذَا ذُكِرَ وَحْدَهُ وَيُفْتَحَ إِذَا ذُكِرَ مَعَ النَّفْعِ. وَهُوَ مَا يَسُوءُ الْإِنْسَانَ فِي نَفْسِهِ أَوْ بَدَنِهِ أَوْ عِرْضِهِ أَوْ مَالِهِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ شُئُونِهِ، وَيُقَابِلُ النَّفْعَ. وَقَالَ الرَّازِيُّ: الضُّرُّ اسْمٌ لِلْأَلَمِ وَالْحُزْنِ وَالْخَوْفِ وَمَا يُفْضِي إِلَيْهَا أَوْ إِلَى أَحَدِهَا، وَالنَّفْعُ اسْمٌ لِلَّذَّةِ وَالسُّرُورِ وَمَا يُفْضِي إِلَيْهِمَا أَوْ إِلَى أَحَدِهِمَا، وَالْخَيْرُ اسْمٌ لِلْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ مِنْ دَفْعِ الضُّرِّ وَحُصُولِ الْخَيْرِ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْخَيْرُ مَا يَرْغَبُ فِيهِ الْكُلُّ، كَالْعَقْلِ مَثَلًا وَالْعَدْلِ وَالْفَضْلِ وَالشَّيْءِ النَّافِعِ وَضِدُّهُ الشَّرُّ. وَأَقُولُ إِنَّ الْخَيْرَ مَا كَانَ فِيهِ مَنْفَعَةٌ أَوْ مَصْلَحَةٌ حَاضِرَةٌ أَوْ مُسْتَقْبَلَةٌ، فَمِنَ الضَّارِّ الْمَكْرُوهِ الَّذِي يَسُوءُ مَا يَكُونُ خَيْرًا بِحُسْنِ أَثَرِهِ أَوْ عَاقِبَتِهِ، وَالشَّرُّ مَا لَا مَصْلَحَةَ وَلَا مَنْفَعَةَ فِيهِ الْبَتَّةَ، أَوْ مَا كَانَ ضُرُّهُ أَكْبَرَ مِنْ نَفْعِهِ. قَالَ تَعَالَى: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ} [2: 216] وَقَالَ فِي النِّسَاءِ: {فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [4: 19] وَقَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسُبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [24: 11] وَالشَّرُّ لَا يُسْنَدُ إِلَى اللهِ تَعَالَى وَلَكِنَّهُ مِمَّا يَبْتَلِي بِهِ النَّاسَ وَيَخْتَبِرُهُمْ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} [10: 11] لَيْسَ مِنْ هَذَا الْإِسْنَادِ فِي شَيْءٍ، وَفِي الْحَدِيثِ: «الْخَيْرُ كُلُّهُ بِيَدَيْكِ وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ».
وَمِنْ دَقَائِقِ بَلَاغَةِ الْقُرْآنِ الْمُعْجِزَةِ تَحَرِّي الْحَقَائِقِ بِأَوْجَزِ الْعِبَارَاتِ وَأَجْمَعِهَا لِمَحَاسِنِ الْكَلَامِ مَعَ مُخَالَفَةِ بَعْضِهَا فِي بَادِي الرَّأْيِ لِمَا هُوَ الْأَصْلُ فِي التَّعْبِيرِ كَالْمُقَابَلَةِ هُنَا بَيْنَ الضُّرِّ وَالْخَيْرِ، وَإِنَّمَا مُقَابِلُ الضُّرِّ النَّفْعُ، وَمُقَابِلُ الْخَيْرِ الشَّرُّ، فَنُكْتَةُ الْمُقَابَلَةِ أَنَّ الضُّرَّ مِنَ اللهِ تَعَالَى لَيْسَ شَرًّا فِي الْحَقِيقَةِ، بَلْ هُوَ تَرْبِيَةٌ وَاخْتِبَارٌ لِلْعَبْدِ يَسْتَفِيدُ بِهِ مَنْ هُوَ أَهْلٌ لِلِاسْتِفَادَةِ أَخْلَاقًا وَآدَابًا وَعِلْمًا وَخِبْرَةً، وَقَدْ بَدَأَ بِذِكْرِ الضُّرِّ لِأَنَّ كَشْفَهُ مُقَدَّمٌ عَلَى نَيْلِ مُقَابِلِهِ، كَمَا أَنَّ صَرْفَ الْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّعِيمِ فِيهَا، وَهَذِهِ الْآيَةُ مُقَابِلَةٌ لِمَا قَبْلَهَا كَمَا تَقَدَّمَ. ثُمَّ ذَكَرَ الْخَيْرَ فِي مُقَابِلِ الضُّرِّ دُونَ النَّفْعِ فَأَفَادَ أَنَّ مَا يَنْفَعُ النَّاسَ مِنَ النِّعَمِ إِنَّمَا يَحْسُنُ إِذَا كَانَ ذَلِكَ النَّفْعُ خَيْرًا لَهُمْ بِعَدَمِ تَرْتِيبِ شَيْءٍ مِنَ الشَّرِّ عَلَيْهِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: إِنْ أَصَابَكَ أَيُّهَا الْإِنْسَانُ ضُرٌّ كَمَرَضٍ وَتَعَبٍ وَحَاجَةٍ وَحُزْنٍ وَذُلٍّ اقْتَضَتْهُ سُنَّةُ اللهِ تَعَالَى فَلَا كَاشِفَ لَهُ، أَيْ لَا مُزِيلَ لَهُ وَلَا صَارِفَ يَصْرِفُهُ عَنْكَ إِلَّا هُوَ دُونَ الْأَوْلِيَاءِ يُتَّخَذُونَ مِنْ دُونِهِ وَيَتَوَجَّهُ إِلَيْهِمُ الْمُشْرِكُ لِكَشْفِهِ، فَهُوَ إِمَّا أَنْ يَكْشِفَهُ عَنْكَ بِتَوْفِيقِكَ لِلْأَسْبَابِ الَّتِي تُزِيلُهُ، وَإِمَّا أَنْ يَكْشِفَهُ بِغَيْرِ عَمَلٍ مِنْكَ وَلَا كَسْبٍ، وَلُطْفُهُ الْخَفِيُّ لَا حَدَّ لَهُ فَلَهُ الْحَمْدُ، وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ، كَصِحَّةٍ وَغِنًى وَقُوَّةٍ وَجَاهٍ فَهُوَ قَادِرٌ عَلَى حِفْظِهِ عَلَيْكَ كَمَا أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى إِعْطَائِكَ إِيَّاهُ؛ لِأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَأَمَّا أُولَئِكَ الْأَوْلِيَاءُ الَّذِينَ اتُّخِذُوا مَنْ دُونِهِ فَلَا يَقْدِرُونَ عَلَى مَسِّكَ بِخَيْرٍ وَلَا ضُرٍّ. فَالْآيَةُ كَمَا قَالَ الرَّازِيُّ دَلِيلٌ آخَرُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْعَاقِلِ أَنْ يَتَّخِذَ غَيْرَ اللهِ وَلِيًّا. وَقَدْ تَبَيَّنَ بِهَا وَبِمَا قَبْلَهَا أَنَّ كُلَّ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْمَرْءُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِنْ كَشْفِ ضُرٍّ وَصَرْفِ عَذَابٍ أَوْ إِيجَادِ خَيْرٍ وَمَنْحِ ثَوَابٍ فَإِنَّمَا يُطْلَبُ مِنَ اللهِ تَعَالَى وَحْدَهُ، وَالطَّلَبُ مِنَ اللهِ تَعَالَى نَوْعَانِ: طَلَبٌ بِالْعَمَلِ وَمُرَاعَاةُ الْأَسْبَابِ الَّتِي تَقْتَضِيهَا سُنَنُهُ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ، وَطَلَبٌ بِالتَّوَجُّهِ وَالدُّعَاءِ اللَّذَيْنِ نَدَبَتْ إِلَيْهِمَا آيَاتُهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ وَأَحْكَامِهِ الشَّرْعِيَّةِ.
هَذَا مَا فَتَحَ اللهُ بِهِ، وَبَعْدَ كِتَابَتِهِ رَاجَعْنَا كِتَابَ رُوحِ الْمَعَانِي فَوَجَدْنَا فِيهِ نَقْلًا فِي نُكْتَةِ الْبَلَاغَةِ فِي الْمُقَابَلَةِ بَيْنَ الضُّرِّ وَالْخَيْرِ أَحْبَبْنَا نَقْلَهَا إِتْمَامًا لِلْفَائِدَةِ قَالَ:
وَفَسَّرُوا الضُّرَّ بِالضَّمِّ بِسُوءِ الْحَالِ فِي الْجِسْمِ وَبِالْفَتْحِ بِضِدِّ النَّفْعِ وَعَدَلَ عَنِ الشَّرِّ الْمُقَابِلِ لِلْخَيْرِ إِلَى الضُّرِّ عَلَى مَا فِي الْبَحْرِ لِأَنَّ الشَّرَّ أَعَمُّ، فَأَتَى بِلَفْظِ الْأَخَصِّ مَعَ الْخَيْرِ الَّذِي هُوَ عَامٌّ رِعَايَةً لِجِهَةِ الرَّحْمَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: إِنَّ مُقَابَلَةَ الْخَيْرِ بِالضُّرِّ مَعَ أَنَّ مُقَابَلَةَ الشَّرِّ وَهُوَ أَخَصُّ مِنْهُ مِنْ خَفِيِّ الْفَصَاحَةِ لِلْعُدُولِ عَنْ قَانُونِ الصَّنْعَةِ وَطَرْحِ رِدَاءِ التَّكَلُّفِ، وَهُوَ أَنْ يُقْرَنَ بِأَخَصَّ مِنْ ضِدِّهِ وَنَحْوِهِ لِكَوْنِهِ أَوْفَقَ بِالْمَعْنَى وَأَلْصَقَ بِالْمَقَامِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى} [20: 118، 119] فَجِيءَ بِالْجُوعِ مَعَ الْعُرْيِ، وَبِالظَّمَأِ مَعَ الصَّحْوِ، وَكَانَ الظَّاهِرُ خِلَافَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ:
كَأَنِّي لَمْ أَرْكَبْ جَوَادًا لِلَذَّةٍ ** وَلَمْ أَتَبَطَّنْ كَاعِبًا ذَاتَ خَلْخَالٍ

وَلَمْ أَسْبَأِ الزِّقَّ الرَّوِيَّ وَلَمْ ** أَقُلْ لِخَيْلِي كِرِّي كَرَّةً بَعْدَ إِجْفَالٍ

وَإِيضَاحُهُ: أَنَّهُ فِي الْآيَةِ قَرَنَ الْجُوعَ الَّذِي هُوَ خُلُوُّ الْبَاطِنِ بِالْعُرْيِ الَّذِي هُوَ خُلُوُّ الظَّاهِرِ، وَالظَّمَأُ الَّذِي فِيهِ حَرَارَةُ الْبَاطِنِ بِالضُّحَى الَّذِي فِيهِ حَرَارَةُ الظَّاهِرِ، وَكَذَلِكَ قَرَنَ امْرُؤُ الْقَيْسِ عُلُوَّهُ عَلَى الْجَوَادِ بِعُلُوِّهِ عَلَى الْكَاعِبِ؛ لِأَنَّهُمَا لَذَّتَانِ فِي الِاسْتِعْلَاءِ وَبَذْلَ الْمَالِ فِي شِرَاءِ الرَّاحِ، بِبَذْلِ الْأَنْفُسِ فِي الْكِفَاحِ؛ لِأَنَّ فِي الْأَوَّلِ سُرُورَ الطَّرَبِ وَفِي الثَّانِي سُرُورَ الظَّفَرِ، وَكَذَا هُنَا أُوثِرُ الضُّرَّ لِمُنَاسَبَتِهِ مَا قَبْلَهُ مِنَ التَّرْهِيبِ، فَإِنَّ انْتِقَامَ الْعَظِيمِ عَظِيمٌ، ثُمَّ لَمَّا ذَكَرَ الْإِحْسَانَ أَتَى بِمَا يَعُمُّ أَنْوَاعَهُ، وَالْآيَةُ مِنْ قَبِيلِ اللَّفِّ وَالنَّشْرِ، فَإِنَّ مَسَّ الضُّرِّ نَاظِرٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنِّي أَخَافُ} إِلَخْ. وَمَسَّ الْخَيْرِ نَاظِرٌ إِلَى قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ} إِلَخْ.
{وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} فَسَّرَ أَهْلُ اللُّغَةِ الْقَهْرَ بِالْغَلَبَةِ وَالْأَخْذِ مِنْ فَوْقٍ وَبِالْإِذْلَالِ، وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْقَهْرُ الْغَلَبَةُ وَالتَّذْلِيلُ مَعًا وَيُسْتَعْمَلُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَقَدْ جَاءَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بَعْدَ إِثْبَاتِ كَمَالِ الْقُدْرَةِ لِلَّهِ تَعَالَى فِيمَا قَبْلَهَا تُثْبِتُ لَهُ جَلَّ وَعَلَا كَمَالَ السُّلْطَانِ وَالتَّسْخِيرِ لِجَمِيعِ عِبَادِهِ وَالِاسْتِعْلَاءِ عَلَيْهِمْ مَعَ كَمَالِ الْحِكْمَةِ وَالْعِلْمِ الْمُحِيطِ بِخَفَايَا الْأُمُورِ، لِيُرْشِدَنَا إِلَى أَنَّ مَنِ اتَّخَذَ مِنْهُمْ وَلِيًّا مِنْ دُونِهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا لِإِشْرَاكِهِ وَمُقَارَنَتِهِ بَيْنَ الرَّبِّ الْقَاهِرِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ الْحَكِيمِ الْخَبِيرِ، وَبَيْنَ الْعَبْدِ الْمَرْبُوبِ الْمَقْهُورِ الْمُذَلَّلِ الْمُسَخَّرِ الَّذِي لَا حَوْلَ لَهُ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ. فَإِذَا كَانَ هَكَذَا شَأْنُ الرَّبِّ وَهَذِهِ صِفَاتُهُ فَلَا يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ بِهِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلِيًّا مِنْ عِبَادِهِ الْمَقْهُورِينَ تَحْتَ سُلْطَانِ عِزَّتِهِ، الْمُذَلَّلِينَ لِسُنَنِهِ الَّتِي اقْتَضَتْهَا حِكْمَتُهُ وَعِلْمُهُ بِتَدْبِيرِ الْأَمْرِ فِي خَلْقِهِ، لِأَنَّ أَفْضَلَ الْمَخْلُوقَاتِ وَأَكْمَلَهُمْ مُسَاوُونَ لِغَيْرِهِمْ فِي الْعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ وَالذُّلِّ لَهُ، وَكَوْنِهِمْ لَا حَوْلَ لَهُمْ وَلَا قُوَّةَ بِأَنْفُسِهِمْ، وَلَمْ يَجْعَلْ مِنْ خَصَائِصِ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَنْ يُشَارِكَهُ فِي التَّصَرُّفِ فِي خَلْقِهِ وَلَا فِي كَوْنِهِ يُدْعَى مَعَهُ وَلَا وَحْدَهُ لِكَشْفِ ضُرٍّ وَلَا جَلْبِ نَفْعٍ {فَلَا تَدْعُوَا مَعَ اللهِ أَحَدًا} [72: 18] {بَلِ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ} [6: 41] {قُلِ ادْعُوَا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلَا} [17: 56] إِلَخْ.